فصل: الشاهد السابع والثلاثون بعد الثمانمائة(br)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: خزانة الأدب وغاية الأرب ***


الشاهد الحادي والثلاثون بعد الثمانمائة

لواحق الأقراب فيها كالمقق

على أن الكاف فيه زائدة‏.‏ قال ابن جني في سر الصناعة‏:‏ المقق‏:‏ الطول، ولا يقال في الشيء كالطول، إنما يقال‏:‏ فيه طول، فكأنه قال‏:‏ فيها مقق، أي‏:‏ طول‏.‏ انتهى‏.‏

والبيت لرؤبة بن العجاج‏.‏ قال الأصمعي في شرحه‏:‏ هو مثل قولهم‏:‏ هو كذي الهيئة، أي‏:‏ هو ذو هيئة‏.‏

وكذا قال ابن السراج في الأصول، وأبو علي في البغداديات، قال‏:‏ وأما مجيء الكاف حرفاً زائداً لغير معنى التشبيه، فكقولهم فيما حدثناه عن أبي العباس‏:‏ فلان كذي الهيئة، يريدون فلان ذو الهيئة، فموضع المجرور رفع‏.‏ ومنه‏:‏

لواحق الأقراب فيها كالمقق

أي‏:‏ فيها مقق، لأنه يصف الأضلاع بأن فيها طولاً، وليس يريد أن شيئاً مثل الطول نفسه‏.‏ ومنه‏:‏ ليس كمثله شيء‏.‏

ومنه أيض‏:‏ وكالذي مر على قرية تقديره‏:‏ أرأيت الذي حاج إبراهيم في ربه، والذي مر على قرية‏.‏ انتهى‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ وحكى الفراء انه قيل لبعض العرب‏:‏ كيف تصنعون الأقط‏؟‏ قال‏:‏ كهين يريد هيناً‏.‏ ومن زيادتها قول بعضهم‏:‏ كمذ أخذت في حديثك، جواباً لمن قال له‏:‏ مذ كم لم تر فلاناً‏؟‏ يريد‏:‏ مذ أخذت‏.‏ انتهى‏.‏

ومنه يعلم أنه لا وجه لتخصيص زيادتها بالضرائر الشعرية، كما زعم ابن عصفور‏.‏

واللواحق‏:‏ جمع لاحقة، اسم فاعل من لحق، كسمع لحوقاً‏:‏ ضمر وهزل‏.‏ والأقراب‏:‏ جمع قرب بضمة فسكون، وبضمتين‏:‏ الخاصرة، وقيل‏:‏ من الشاكلة إلى مراق البطن‏.‏ يريد أنها خماص البطون‏.‏ وضمير فيها للأقراب‏.‏

والمقق، بفتح الميم والقاف‏:‏ الطول؛ وقال الليث‏:‏ الطول الفاحش في دقة‏.‏ فقوله‏:‏ كالمقق مرفوع الموضع على الابتداء، وخبره الظرف قبله، والجملة حال من الأقراب‏.‏

والبيت من قصيدة طويلة تزيد على مائتي بيت شرحنا قطعة كبيرة منها في الشاهد الخامس من أول الكتاب، وهو من جملة أبيات كثيرة في وصف أتن حمار الوحش التي شبه ناقته بها في الجلادة والعدو السريع، لا في وصف الخيل كما زعم العيني وتبعه غيره‏.‏ فينبغي أن نشرح أبياتاً قبله، حتى يتضح ما قلنا‏.‏

وقد وصف حمار الوحش بأبيات إلى أن قال‏:‏

أحقب كالمحلج من طول القلق *** كأنه إذ راح مسلوس الشمق

في الصحاح‏:‏ الأحقب‏:‏ حمار الوحش، سمي بذلك لبياض في حقويه، والأنثى حقباء‏.‏

والمحلج، قال صاحب المصباح‏:‏ حلجت القطن حلجاً، من باب ضرب‏.‏ والمحلج، بكسر الميم‏:‏ خشبة يحلج بها، حتى يخلص الحب من القطن‏.‏

قال الأصمعي‏:‏ شبهه بالمحلج لصلابته‏.‏ وينبغي أن يقال‏:‏ ولكثرة حركته واضطرابه‏.‏ ومن طول القلق، هو وجه الشبه، وهو كناية عن عدم سكونه‏.‏ والقلق‏:‏ الاضطراب‏.‏ د وراح‏:‏ نقيض غدا، يقال‏:‏ سرحت الماشية بالغداة، وراحت بالعشي، أي‏:‏ رجعت‏.‏ والعامل في إذا ما في كأن من معنى التشبيه‏.‏ يصف رجوعه إلى مأواه‏.‏ ومسلوس خبر كأنه، وهو من السلاس بالضم، وهو ذهاب العقل‏.‏

والمسلوس‏:‏ المجنون، وقد سلس بالبناء للمفعول‏.‏ والشمق‏:‏ النشاط، مصدر شمق كفرح‏.‏ وقال الليث‏:‏ هو مرح الجنون‏.‏

نشر عنه وأسير قد عتق *** منسرحاً إلا ذعاليب الخرق

نشر بالبناء للمفعول بالتخفيف، والتثقيل، أي‏:‏ كشف عنه، وهو من النشرة بالضم‏.‏ قال صاحب القاموس‏:‏ هي رقية يعالج بها المجنون والمريض، وقد نشر عنه‏.‏ وانتشر‏:‏ انبسط كتنشر‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ والتنشير من النشرة، وهي كالتعويذ والرقية‏.‏ وجملة‏:‏ نشر حال من ضمير مسلوس‏.‏

يقول‏:‏ كان هذا الحمار الأحقب كالاً من كثرة حركته، فحين أراد الرجوع إلى مأواه، نشط شوقاً إليه، فكأنه مجنون نشاط زال جنونه، ومريض شوق ذهب داؤه‏.‏ والتعبير بالجنون عن كثرة اللهج بالشيء، وفرط الميل إليه، مستفيض‏.‏

وأسير معطوف على مسلوس‏.‏ وعتق العبد من باب ضرب، وعتاقاً وعتاقة‏:‏ صار حراً‏.‏ والاسم العتق بالكسر، وهو الحرية‏.‏ وهو عاتق، أي‏:‏ حر‏.‏ وأعتقه‏:‏ جعله حراً، فهو معتق بكسر التاء، وذلك معتق بفتحها‏.‏

يقول‏:‏ هذا الأحقب يشبه أسيراً، صادف غرة، فتفلت من أسره، فهرب أشد الهرب‏.‏

والمنسرح، بالسين والحاء المهملتين‏:‏ الخارج من ثيابه، وهو حال من ضمير راح‏.‏ والذعاليب، بالذال المعجمة والعين المهملة‏:‏ جمع ذعلوب كعصفور‏.‏

والذعالب‏:‏ جمع ذعلبة بالكسر، وهما قطع الخرق، وقال أبو عمرو‏:‏ أطراف الثياب، وقال صاحب القاموس‏:‏ وما تقطع نمه فتعلق‏.‏ وثوب ذعاليب‏:‏ خلق‏.‏ وهذا تمثيل يؤيد أن هذا الأحقب انسرح من وبره إلا بقايا بقيت عليه‏.‏ وهذا مما ينشطه‏.‏ وروى صاحب الصحاح‏:‏

منسرحاً عنه ذعاليب الخرق

فيكون حالاً سببياً‏.‏ وضمير عنه راجع للأحقب‏.‏ وذعاليب فاعل منسرحاً‏.‏ والمعنى‏:‏ تساقط عنه وبره كله‏.‏

قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل‏:‏ الحرق بالحاء والراء المهملتين المفتوحتين، هو تحت الوبر، من قولهم‏:‏ حرق شعره، أي‏:‏ تقطع ونسل‏.‏ وليس للخرق هنا بالخاء المعجمة وجه‏.‏ وهو على ما أوردته في شعر رؤبة‏.‏

منتحياً من قصده على وفق *** صاحب عادات من الورد الغفق

في الصحاح‏:‏ أنحى في سيره، أي‏:‏ اعتمد على الجانب الأيسر‏.‏ والانتحاء مثله‏.‏ هذا هو الأصل، ثم صار الانتحاء الاعتماد، والميل في كل وجه‏.‏ انتهى‏.‏

وفيه نظر، فإن حقيقة الانتحاء أخذ النحو، أي‏:‏ الناحية والجانب، فمن أين يدخل الأيسر في مفهومه‏؟‏ والقصد، كما في المصباح‏:‏ مصدر قصدت الشيء، وله، وإليه، من باب ضرب‏:‏ طلبته بعينه‏.‏ وهو على قصد، أي‏:‏ رشد‏.‏ ويأتي بمعنى‏:‏ استقامة الطريق‏.‏ والوفق، بفتحتين كما في القاموس‏:‏ مصدر وفقت أمرك كرشدت‏:‏ صادفته موافقاً‏.‏

وصاحب عادات، ومنتحياً‏:‏ حالان من ضمير الأحقب في راح‏.‏ والورد بالكسر، في المصباح‏:‏ ورد البعير وغيره الماء يرده وروداً‏:‏ بلغه ووافاه من غير دخول، وقد يكون دخولاً‏.‏ والاسم الورد بالكسر‏.‏

والغفق، بفتح الغين المعجمة والفاء، هو أن ترد الإبل كل ساعة‏.‏

وقال الأصمعي‏:‏ ظل يتغفق الماء، إذا جعل يشرب ساعة فساعة‏.‏ وهو وصف الورد بتأويله بوصفه بالمتكرر والمتعدد‏.‏ وإذا كان ورده متعدداً في اليوم، فهو يسرع ليرد الماء‏.‏ فهذه العادة مما تنشطه للإسراع أيضاً‏.‏

ترمي ذراعيه بجثجات السوق *** ضرجاً وقد أنجدن من ذات الطوق

فاعل ترمي صوادق العقب الآتي‏.‏ وضمير ذراعيه للأحقب‏.‏ والجثجات بجيمين ومثلثتين، قال الدينوري في كتاب النبات‏:‏ هو جمع، الواحدة جثجانة‏.‏

وأخبرني أعرابي من ربيعة أن الجثجاثة ضخمة يستدفئ بها الإنسان، إذا عظمت‏.‏ ومنابتها القيعان، ولها زهرة صفراء تنبت على هيئة العصفر‏.‏

وقال غيره من الأعراب‏:‏ هو من الأمرار، وهو أخضر ينبت بالقيظ، له زهرة طيبة الريح تأكله الإبل إذا لم تجد غيره‏.‏ وقال أبو نصر‏:‏ الجثجاث شبيه بالقيصوم‏.‏ ولطيب ريحه ومنابته في الرياض‏.‏

قال الشاعر‏:‏

فما روضة بالحزن طيبة الثرى *** يمج الندى جثجاثها وعرارها

بأطيب من فيها إذا جئت طارق *** وقد أوقدت بالمجمر اللدن نارها

والسوق، بضم السين المهملة وفتح الواو‏:‏ موضع، وكذلك ذات الطوق بضم الطاء المهملة وفتح الواو‏.‏ ولم أر من ذكرهما‏.‏ وقد راجعت معجم ما استعجم، ومعجم البلدان، والمرصع، والصحاح، والعباب، والقاموس فما وجدتهما فيها‏.‏

يريد أن الأحقب يسوق أتنه، فهي تمشي قدامه، ومن شدة سرعتها يتكسر هذا النبت فيتطاير كسره فتصيب ذراعيه‏.‏

وضرجاً، بالضاد المعجمة والجيم‏:‏ مصدر ضرجه بمعنى شقه، وهو هنا حال من الجثجاث بتأويله باسم المفعول، أي‏:‏ مضروجة‏.‏ وأنجدن‏:‏ صرن إلى نجد‏.‏ والنجد‏:‏ ما ارتفع من الأرض‏.‏ وجملة قد أنجدن‏:‏ حال من فاعل ترمي‏.‏ وفيه مبالغة في جلادتها، فإن الطلوع من منخفض إلى مرتفع أمر شاق، وهي مع هذه الحال يتكسر الجثجاث من شدة وطئها‏.‏

صوادق العقب مهاذيب الولق *** مستويات القد كالجنب النسق

صوادق‏:‏ فاعل ترمي المتقدم، وهو جمع صادقة اسم فاعل من الصدق، وهو كما يكون في القول، يكون في الفعل بمعنى التحقق‏.‏ والعقب، بفتح العين المهملة وسكون القاف‏:‏ الجري الذي يجيء بعد الجري الأول‏.‏

يقال‏:‏ لهذا الفرس عقب حسن‏.‏ وفيه مبالغة حيث يتحقق جري هذه الأتن بعد تعبها وكلالها، فهي لا تفتر أبداً‏.‏ ومهاذيب‏:‏ جمع مهذابة؛ كمطاعيم جمع مطعامة، مبالغة هاذبة بمعنى مسرعة‏.‏ يقال‏:‏ هذب هذباً وهذابة، أي‏:‏ أسرع‏.‏ ويقال أيضاً‏:‏ أهذب وهذب وهاذب بمعناه‏.‏

وفي الصحاح‏:‏ الإهذاب والتهذيب‏:‏ الإسراع في الطيران والعدو والكلام‏.‏ وهو صفة صوادق، وكذلك مستويات‏.‏

والولق، بفتح الواو‏:‏ مصدر ولق يلق، من باب فرح، بمعنى الإسراع‏.‏ والإضافة بمعنى في‏.‏ يريد‏:‏ أنهن سراع في عدوهن‏.‏

والقد، بكسر القاف، قال صاحب القاموس‏:‏ الطريقة‏.‏ وقال الأصمعي‏:‏ الحذاء، يقال‏:‏ حذاؤهن واحد‏.‏ انتهى‏.‏

وأراد بالحذاء مصدر حاذيته، أي‏:‏ قاربته‏.‏ والجنب هو ما تحت الإبط إلى الكشح‏.‏ والنسق فعل بمعنى منسوق، يقال‏:‏ در نسق، أي‏:‏ منسوق، وفعله نسقت الدر نسقاً من باب قتل‏:‏ نظمته‏.‏

يقول‏:‏ كأنهن في قرب بعضهن لبعض كأضلاع الجنب، فلا تتأخر إحداهن عن صاحبتها‏.‏ يريد‏:‏ أنهن في السرعة سواء، فلا يفضل بعضها على بعض‏.‏

تحيد عن أظلالها من الفرق *** من غائلات الليل والهول الزعق

حاد عن الشيء حيدة وحيوداً‏:‏ تنحى وبعد‏.‏ والجملة استئنافية‏.‏ والفرق‏:‏ مصدر فرق، كفرح، بمعنى خاف‏.‏ وهو علة لقوله‏:‏ تحيد‏.‏ وحرفا الجر متعلقان بتحيد‏.‏ وهذا مثل قولهم‏:‏ فلان يفرق من ظله‏.‏

وغائلات الليل‏:‏ الصياد، والأسد، والذئب، وما أشبه ذلك‏.‏ وهذا مما يزيد الأتن نشاطاً في الإسراع‏.‏ والهول‏:‏ مصدر هاله من باب قال، بمعنى أفزعه‏.‏

والزعق، بفتح الزاي المعجمة والعين المهملة‏:‏ مصدر زعق كفرح، وهو الخوف في الليل‏.‏ فهو بدل من الهول‏.‏

قب من التعداء حقب في سوق *** لواحق الأقراب فيها كالمقق

أي‏:‏ هذه الأتن قب‏.‏ والجملة استئنافية‏.‏ والقب‏:‏ جمع أقب وقباء، من القبب، ودقة الخصر، وضمر البطن، أي‏:‏ هن خماص من كثرة عدوهن‏.‏ والتعداء‏:‏ مصدر عدا من باب قال، وهو أبلغ من العدو‏.‏

والحقب خبر بعد خبر، وهو جمع حقباء، وتقدم شرحه‏.‏ والسوق، بفتحتين‏:‏ طول الساق‏.‏ والأسوق‏:‏ الطويل الساقين، وقال ابن دريد‏:‏ غليظهما، وقيل‏:‏ حسنهما‏.‏ وهي سوقاء‏.‏ ولواحق خبر ثالث‏.‏

فظهر بسوق هذه الأبيات أن البيت الشاهد في وصف الأتن الوحشية، لا في وصف الخيل‏.‏ والله أعلم‏.‏ وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثاني والثلاثون بعد الثمانمائة

وهو من شواهد س‏:‏

فأصبحوا مثل كعصف مأكول

على أنه يحكم بزيادة الكاف عند دخول مثل عليها‏.‏

قال ابن جني في سر الصناعة‏:‏ وأما قوله‏:‏

فصيروا مثل كعصف مأكول

فلا بد من زيادة الكاف، فكأنه قال‏:‏ فصيروا مثل عصف مأكول، فأكد الشبه بزيادة الكاف كما أكد الشبه بزيادة الكاف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء إلا أنه في الآية أدخل الحرف على الاسم، وهذا سائغ، وفي البيت أدخل الاسم على الحرف، فشبه شيئاً بشيء‏.‏ انتهى‏.‏

وأنشده سيبويه على أنها فيه اسم لضرورة الشعر، قال‏:‏ إن ناساً من العرب إذا اضطروا في الشعر جعلوها بمنزلة مثل‏.‏ قال الراجز‏:‏

فصيروا مثل كعصف مأكول

وقال الآخر‏:‏

وصاليات ككما يؤثفين

قال الأعلم‏:‏ أدخل مثلاً على الكاف إلحاقاً لها بنوعها من الأسماء ضرورة‏.‏ وجاز الجمع بينهما جوازاً حسناً لاختلاف لفظيهما مع ما قصده من المبالغة في التشبيه‏.‏ ولو كرر المثل لم يحسن‏.‏

وقال صاحب الكشاف عند قوله‏:‏ ليس كمثله شيء‏:‏ ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت للتأكيد، كما كررها من قال‏.‏ وأنشد البيت وما بعده‏.‏

وأورد عليه أن الكاف تفيد كونها التشبيه لا تأكيد النفي، ونفي المماثلة المهملة أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة، فليست الآية نظيراً للبيت‏.‏ وأجيب بأنها تفيد تأكيد التشبيه، إن سلباً فسلب، وإن إثباتاً فإثبات‏.‏

قال ابن هشام في المغني‏:‏ وفي الآية قول ثالث، وهو أن الكاف ومثلاً لا زائد منهما‏.‏ ثم اختلف، فقيل‏:‏ مثل بمعنى الذات‏.‏ وقيل‏:‏ بمعنى الصفة، وقيل‏:‏ الكاف اسم مؤكد بمثل، كما عكس ذلك من قال‏:‏

فصيروا مثل كعصف مأكول

وأورد عليه الدماميني بأنه يلزم عليه إضافة المؤكد إلى التأكيد، والبصريون لا يعتدون بها لأنها في غاية الندرة، فلا ينبغي تخريج التنزيل عليها‏.‏

والشارح المحقق لما حكم بزيادة الكاف في البيت ورد عليه سؤال، وهو ما مجرور مثل‏؟‏ فأجاب بجوابين‏:‏ أولهما‏:‏ لابن جني في سر الصناعة، وثانيهما‏:‏ مأخوذ أيضاً من تقريره، وقد بسط الكلام فيه، فلا بأس بإيراده لكثرة فوائده، قال‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ إذا جر العصف أبا لكاف التي تجاوره، أم بإضافة مثل إليه على أنه فصل بالكاف بين المضاف والمضاف إليه‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه لا يجوز أن يكون مجروراً إلا بالكاف، وإن كانت زائدة، كما أن من وجميع حروف الجر في أي موضع وقعن زوائد، فلا بد من أن يجررن ما بعدهن‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا جررت العصف بالكاف، فإلام أضفت مثلاً‏؟‏ وما الذي جررت به‏؟‏ فالجواب‏:‏ أن مثلاً وإن لم تكن مضافة في اللفظ، فإنها مضافة في المعنى، وجارة لما هي مضافة إليه في التقدير‏.‏ وذلك أن التقدير‏:‏ فصيروا مثل عصف، فلما جاءت الكاف تولت جر العصف، وبقيت مثل غير جارة ولا مضافة في اللفظ، وكان احتمال هذه الحال في الاسم المضاف أسوغ منه في الحرف الجار‏.‏

وذلك أنا لا نجد حرفاً جاراً معلقاً غير عامل في اللفظ، وقد نجد بعض الأسماء معلقاً عن الإضافة جاراً في المعنى غير جار في اللفظ، وذلك نحو قولهم‏:‏ جئت قبل وبعد، وقام زيد ليس غير‏.‏ وقال‏:‏

بين ذراعي وجبهة الأسد

أي‏:‏ بين ذراعي الأسد وجبهته‏.‏ وهذا كثير‏.‏ وإنما أردت أن أوجدك أن الأسماء تعلق عن الإضافة في ظاهر اللفظ، وأن الحروف لا يمكن أن تعلق عن الجر في اللفظ البتة‏.‏

فأما قول الشاعر‏:‏

جياد بني أبي بكر تسامى *** على كان المسومة العراب

فإنما جاز الفصل بكان من قبل أنها زائدة مؤكدة، فجرت مجرى ما المؤكدة في نحو قوله‏:‏ فبما نقضهم ميثاقهم ، وعما قليل ولا يجوز في قوله‏:‏ ككما يؤثفين أن تكون ما مجرورة بالكاف الأولى، لأن الكاف الثانية عاملة للجر، وليست كان جارة فتجري مجرى الكاف في ككما‏.‏

فإن قبل‏:‏ فمن أين جاز تعليق الأسماء عن الإضافة في اللفظ، ولم يجز في حروف الجر إلا أن تتصل بالمجرور‏؟‏ فالجواب أن ذلك جائز في الأسماء من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أن الأسماء أقوى وأعم تصرفاً من الحروف، وهي الأول الأصول، فغير منكر أن يتجوز فيها ما لا يتجوز في الحروف‏.‏

ألا ترى أن تاء التأنيث في الاسم نحو‏:‏ مسلمة قد أبدلوها هاء في الوقف ولم يبدلوها في ربت وثمت‏.‏ والفعل أيضاً في هذا جار مجرى الحرف‏.‏

والثاني‏:‏ أن الأسماء ليست في أول وضعها مبنية على أن تضاف ويجر بها، وإنما الإضافة فيها ثان لا أول، فجاز فيها أن تعرى في اللفظ من الإضافة، وإن كانت الإضافة فيها منوية‏.‏

وأما حروف الجر فوضعت على أنها للجر البتة، وعلى أنها لا تفارق المجرور، لضعفها، وقلة استغنائها عن المجرور، فلم يمكن تعليقها عن الجر والإضافة؛ لئلا يبطل العرض‏.‏

فإن قيل‏:‏ فمن أين جاز للاسم أن يدخل على الحرف في قوله‏:‏ مثل كعصف‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنه إنما جاز لما بين الكاف ومثل من المضارعة في المعنى، فكما حاز أن يدخلوا الكاف على الكاف في ككما يؤثفين، لمشابهته لمثل، حتى كأنه قال‏:‏ كمثل ما يؤثفين، كذلك أدخلوا مثلاً على الكاف في قوله‏:‏ كعصف، وجعلوا ذلك تنبيهاً على قوة الشبه بين الكاف ومثل‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهل تجيز أن تكون الكاف مجرورة بإضافة مثل إليها ويكون العصف مجروراً بالكاف‏؟‏ فتكون قد أضفت كل واحد من مثل والكاف، فيزول عنك الاعتذار بتركهم مثلاً غير مضافة، ويكون جر الكاف بإضافة مثل إليها كجرها بدخول الكاف على الكاف في ككما يؤثفين، فكما أن الكاف الثانية هنا مجرورة بالأولى كما انجرت بعلى في قوله‏:‏

على كالقطا الجوني

فالجواب‏:‏ أن قوله‏:‏ مثل كعصف قد ثبت أن مثل والكاف فيه زائدة، كما أن إحداهما زائدة في ليس كمثله شيء ، وإذا ثبت ذلك، فلا يجوز أن تكون مثل هي الزائدة، لأنها اسم، والأسماء لا تزاد إنما تزاد الحروف، فالزائد الكاف، فإذا كانت هي الزائدة فهي حرف، وإذا كانت حرفاً، بطل أن تكون مجرورة، وإذا لم تكن مجرورة بطل أن تكون مثل مضافة إليها‏.‏

على أن أبا علي قد كان أجاز أن تكون مثل مضافة إلى الكاف، وتكون الكاف هنا مجرورة اسماً‏.‏ وفيه عندي ضعف لما ذكرته‏.‏

وأما قوله‏:‏ ككما يؤثفين فقد استدللنا بدخول الكاف الأولى على الثانية، أن الثانية اسم، وأن الأولى حرف قد جر الثانية، وهو مع ذلك زائد‏.‏ ولا ينكر وإن كان زائداً أن يكون جاراً‏.‏ انتهى كلام ابن جني‏.‏

وكأن الدماميني لم يقف على كلام الشارح المحقق، ولا على كلام ابن جني، فقال في الحاشية الهندية‏:‏ ينبغي أن تكون الكاف في البيت اسماً أضيف إليه مثل، فيكون عمل كل من الكلمتين موفراً‏.‏ أما إذا جعلت حرفاً، وجعل مثل مضافاً إلى عصف، لزم قطع الحرف الجار عن عمله بلا كاف، اللهم إلا أن يقال‏:‏ ينزل منزلة الجزء من المجرور‏.‏ هذا كلامه‏.‏

قال العيني‏:‏ البيت من شعر لرؤبة بن العجاج‏.‏ وقبله‏:‏

ومسهم ما مس أصحاب الفيل *** ولعبت طير بهم أبابيل

ترميهم حجارةً من سجيل *** فصيروا مثل كعصف مأكول

ولم يذكر ما مرجع الضمير، ومن الذين جرى عليهم هذا الأمر‏.‏

وأصحاب الفيل‏:‏ أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن، من قبل أصحمة النجاشي وجيشه‏.‏

وكان من أمر أبرهة أنه بنى كنيسة بصنعاء، وأراد صرف الحاج إليها، فخرج رجل من بني كنانة فقضى حاجته فيها، فأغضبه ذلك، وحلف ليهدمن الكعبة‏.‏ فخرج بجيشه، ومعه الفيلة، وفيل قوي يسمى محموداً، فلما نهي لدخول الحرم عبى جيشه، وقدم الفيل، فكان كلما وجهوه إلى الحرم، برك ولم يبرح، وإذا وجهوه إلى اليمن وإلى جهة أخرى هرول‏.‏

فأرسل الله طيراً أبابيل في منقار كل منها حجر، وفي رجليه حجران أكبر من العدسة، وأصغر من الحمصة، فرمتهم، فكان الحجر يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره‏.‏ فهلكوا جميعاً‏.‏

السجيل‏:‏ الطين المتحجر‏.‏ معرب‏:‏ سنك كل‏.‏ والأبابيل‏:‏ الجماعات من الطير، جمع إبالة بكسر الهمزة وتشديد الموحدة، وهي الحزمة الكبيرة، شبهت بها الجماعة من الطير لتضامها‏.‏ وقيل‏:‏ هي الجماعات من الطير لا واحد لها‏.‏

وقوله‏:‏ فأصبحوا روي بدله‏:‏ فصيروا بالبناء للمفعول‏.‏ وبه استشهد ابن هشام في شرح الألفية لتعدية صير إلى مفعولين‏:‏ أحدهما‏:‏ نائب الفاعل‏.‏

وثانيهما‏:‏ مثل‏.‏ والعصف قال صاحب العباب‏:‏ قال الفراء‏:‏ هو بقل الزرع‏.‏ وعن الحسن البصري‏:‏ الزرع الذي أكل حبه، وبقي تبنه‏.‏ وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

وصاليات ككما يؤثفين

وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة‏.‏ وأنشد بعده‏:‏

ولا للما بهم أبداً دواء

أوله‏:‏

فلا والله لا يلفى لما بي

وتقدم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

يا تيم تيم عدي لا أبا لكم *** لا يلقينكم في سوءة عمر

وتقدم شرحه في الشاهد الثاني والثلاثين بعد المائة‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الثالث والثلاثون بعد الثمانمائة

ولا ترى الضب بها ينجحر

على أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ليس كمثله شيء النفي فيه منصب على مثل مثله، وعلى مثله جميعاً، فليس لله سبحانه وتعالى مثل حتى يكون لمثله شيء يماثله‏.‏ فالمنفي المثل، ومثل المثل جميعاً وهذا كقول عمرو بن أحمر في وصف فلاة‏:‏

لا تفزع الأرنب أهواله *** ولا ترى الضب بها ينجحر

لم يرد أن بها أرانب لا تفزعها أهوالها، ولا ضباباً غير منحجرة، ولكنه نفى أن يكون بها حيوان‏.‏

وقد أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً الآية‏.‏ على أن المراد نفي السلطان، يعني الحجة والنزول جميعاً، لا نفي التنزيل فقط بأن يكون ثمة سلطان، لكنه لم ينزل‏.‏

كما أن المنفي في البيت الضب والانجحار جميعاً لا الانجحار فقط، إذ المراد وصف هذه المفازة بكثرة الأهوال، بحيث لا يمكن أن يسكنها حيوان‏.‏

والإفزاع‏:‏ الإخافة‏.‏ والأرنب‏:‏ مفعول مقدم، وأهوالها‏:‏ فاعل يفزع، والضمير للمفازة والفلاة، وهي جمع هول، وهي الشدائد التي تفزع‏.‏ والهول‏:‏ مصدر هاله الشيء، أي‏:‏ أفزعه‏.‏

والضب‏:‏ حيوان معروف‏.‏ والانجحار، بتقديم الجيم على الحاء المهملة‏:‏ الدخول في الجحر بضم الجيم، وهو ما حفره الهوام السباع لأنفسها‏.‏

وفي أساس البلاغة‏:‏ جحرت الضباب فانجحرت، أي‏:‏ دخلت في جحرتها‏.‏ يقول‏:‏ لا تفزع أهوال تلك المفازة الأرنب، لأنه لا أرنب حتى تفزع من أهوالها؛ لأنه لا يمكنها السكون فيها لشدة أهوالها، ولا تشاهد الضب فيها منجحراً لأنه لا ضب فيها فينجحر‏.‏

وهذا البيت نسبه ابن الأنباري في شرح المفضليات لعمرو بن أحمر الباهلي، وهو شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة‏.‏

والمشهور والمستعمل في هذا المعنى قول امرئ القيس‏:‏

على لاحب لا يهتدى بمناره *** إذا سلفه العود الديافي جرجرا

فإنه لم يرد أن فيه مناراً لا يهتدى به، ولكنه نفى أن يكون به منار‏.‏ والمعنى‏:‏ لا منار فيه فيهتدى به‏.‏ واللاحب، بالحاء المهملة‏:‏ الطريق الواضح‏.‏

والمنار‏:‏ جمع منارة، وأصلها منورة، مفعلة من النور، وسمي بذلك لأنها في الأصل كل مرتفع عليه نار، ولذلك قالوا في جمعها‏:‏ مناور‏.‏ وسافه‏:‏ شمه، ومصدره السوف‏.‏ والعود‏:‏ بفتح المهملة‏:‏ البعير الهرم‏.‏ الديافي منسوب إلى دياف‏:‏ قرية بالشام، وقيل‏:‏ بالجزيرة‏.‏ وقيل‏:‏ بل دياف أنباط بالشام‏.‏ وفتح بعضهم أوله‏.‏ والجرجرة‏:‏ صوت يردده البعير في حنجرته‏.‏ وإنما يجرجر في الطريق، إذا شمه، لما يعرف من شدته، وصعوبة مسلكه‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الرابع والثلاثون بعد الثمانمائة

فأجمل وأحسن في أسيرك إنه *** ضعيف ولم يأسر كإياك آسر

على أن الكاف قد تدخل على الضمير المنصوب المنفصل لضرورة الشعر، كما هنا‏.‏

قال ابن عصفور في كتاب الضرائر‏:‏ ومنه وضع صيغة ضمير النصب المنفصل بدل صيغة ضمير الرفع المنفصل المجعول في موضع خفض بكاف التشبيه‏.‏ وذلك قوله‏:‏

فأجمل وأحسن‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏البيت

يريد‏:‏ كأنت آسر، فوضع إياك موضع أنت للضرورة، وإنما قضى على إياك بأنها في موضع أنت، لأن الكاف لا تدخل في سعة الكلام على مضمر، إلا أن تكون صيغته ضمير رفع منفصل، نحو قولهم‏:‏ ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا‏.‏ انتهى‏.‏

ومثله لثعلب في أماليه، قال‏:‏ وما رأيت كإياك إلا في الشعر‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏

وقال أبو حيان في أماليه‏:‏ أنشد الفراء وهشام عن الكسائي‏:‏

وأحسن وأجمل في أسيرك إنه البيت

نصب إياك في موضع الخفض، لتقارب ما بين النصب والخفض، والنصب على إياك أغلب كما أنت بالرفع أشهر وأعرف‏.‏ انتهى‏.‏

وقوله‏:‏ فأجمل بقطع الهمزة المفتوحة وكسر الميم، أي‏:‏ عامل بالجميل‏.‏ وأحسن، بفتح الهمزة وكسر السين، أي‏:‏ افعل الحسن‏.‏ وأسرته أسراً، من باب ضرب، فهو أسير، وذاك آسر‏.‏ وهو فاعل يأسر‏.‏ يريد‏:‏ لم يأسرني آسر مثلك‏.‏ والبيت لم أطلع على قائله‏.‏ والله أعلم به‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد الخامس والثلاثون بعد الثمانمائة

وهو من شواهد س‏:‏

فلا أرى بعلاً ولا حلائل *** كه ولا كهن إلا حاظلا

على أن الكاف قد تدخل أيضاً على الضمير المجرور في ضرورة الشعر‏.‏

قال سيبويه في باب ما لا يكون فيه الإضمار من حروف الجر‏:‏ وذلك الكاف التي في‏:‏ أنت كزيد وحتى، ومذ‏.‏ وذلك أنهم استغنوا بقولهم‏:‏ مثلي، وشبهي عنه، فأسقطوه‏.‏

واستغنوا عن الإضمار في حتى بقولهم‏:‏ دعه حتى يوم كذا وكذا، وبقولهم‏:‏ دعه حتى ذاك‏.‏ وبالإضمار في إلى قولهم‏:‏ دعه إليه، لأن المعنى واحد‏.‏

كما استغنوا بمثلي، وبمثله عن كي وكه‏.‏ واستغنوا عن الإضمار في مذ بقولهم‏:‏ مذ ذاك؛ لأن ذاك اسم مبهم، وإنما يذكر حين يظن أنك قد عرفت ما يعني‏.‏ إلا أن الشعراء إذا اضطروا أضمروا في الكاف، فيجرونها على القياس‏.‏

قال العجاج‏:‏

وأم وعال كه وأقربا

وقال‏:‏

فلا ترى بعلاً ولا حلائل *** كه ولا كهن إلا حاظلا

شبهوه بقوله‏:‏ له ولهن‏.‏ ولو اضطر شاعر فأضاف الكاف إلى نفسه، قال‏:‏ كي‏.‏ وكي خطأ، من قبل أنه ليس من حرف يفتح قبل ياء الإضافة‏.‏ انتهى‏.‏

قال النحاس‏:‏ هذا عند سيبويه قبيح‏.‏ والعلة له أن الإضمار يرد الشيء إلى أصله‏.‏ فالكاف في موضع مثل، فإذا أضمرت ما بعدها، وجب أن تأتي بمثل‏.‏ وأبو العباس، فيما حكى لنا علي بن سليمان، يجيز الإضمار في هذا على القياس، لأن المضمر عقيب المظهر، وقد نطقت به العرب‏.‏

وقد ذكرنا قبل ما ذكره بعض النحويين من إجازتهم‏:‏ أنا كأنت، وكإياك، ورد أبي العباس لذلك‏.‏ انتهى كلامه‏.‏ وقال ابن عصفور في كتاب الضرورة‏:‏ ومنه، يستعمل الحرف للضرورة، استعمالاً لا يجوز مثله في الكلام، نحو قول العجاج‏:‏

وأم أوعال كه وأقربا

فجر بالكاف الضمير المتصل‏.‏ وحكمها في سعة الكلام أن لا تجر إلا الظاهر، والضمير المنفصل، لجريانه مجرى الظاهر، فيقال‏:‏ ما أنا كأنت، ولا أنت كأنا‏.‏

حكى الكسائي عن بعض العرب أنه قيل له‏:‏ من تعدون الصعلوك فيكم‏؟‏ فقال‏:‏ هو الغداة كأنا‏.‏ لكنه لما اضطر أبدلها من حكمها، حكم ما هي في معناه، وهو مثل، فجعلها تجر الضمير المتصل كما تجر الضمير المنفصل، كما يجره مثل‏.‏

ومن ذلك قوله‏:‏

وإذا الحرب شمرت لم تكن كي *** حين تدعو الكماة فيها نزال

أنشده الفراء، وقال‏:‏ أنشدنيه بعض أصحابنا، ولم أسمعه أنا من العرب‏.‏ قال الفراء‏:‏ وحكي عن الحسن البصري‏:‏ أنا كك، وأنت كي‏.‏ واستعمال هذا في حال السعة شذوذ، لا يلتفت إليه‏.‏ انتهى‏.‏

ومن دخولها على الضمير قول أبي محمد اليزيدي اللغوي النحوي - أخذ عن أبي عمرو ويونس، وأكابر البصريين، وكان معلم المأمون بن هارون الرشيد -‏:‏

شكوتم إلينا مجانينكم *** ونشكو إليكم مجانيننا

فلولا المعافاة كنا كهم *** ولولا البلاء لكانوا كنا

وقال آخر‏:‏

لا تلمني فإنني كك فيه *** إننا في الملام مشتركان

وكتب بعض الفضلاء إلى ابن المقفع كتاباً يباريه في الوجازة‏:‏ بسم الله الرحمن الرحيم‏.‏ نحن صالحون فكيف أنتم‏؟‏ فكتب إليه ابن المقفع‏:‏ نحن كك‏.‏ والسلام‏.‏ وبما نقلنا عن سيبويه، يعرف أن نسبه جواز ذلك إليه مطلقاً غير صحيح‏.‏ وممن نسب الجواز إليه مطلقاً أبو حيان، قال في الارتشاف، وفي الواضح‏:‏ أجاز سيبويه وأصحابه أنت كي، وأنا كك‏.‏ وضعفه الكسائي والفراء وهشام‏.‏

وقال في تذكرته أيضاً‏:‏ واختلفوا في دخول الكاف على الياء والكاف، فأجاز سيبويه وأصحابه‏:‏ أنت كي، وأنا كك‏.‏

وضعف هذا الكسائي والفراء وهشام واحتجوا بأنه قليل في كلام العرب‏.‏ وقال الفراء‏:‏ أنشدني بعض أصحابنا‏:‏

وإذا الحرب شمرت لم تكن كي البيت

قال الفراء‏:‏ وما سمعت أنا هذا البيت من العرب‏.‏ وقال هشام‏:‏ ما قالت العرب‏:‏ أنا كك، وأنت كي‏.‏ قال‏:‏ والبيت الذي ينشد في كي مؤلف، من قول بشار، لا يلتفت إليه‏.‏

وقال الفراء‏:‏ قد حكي عن الحسن البصري‏:‏ أنا كك، وأنت كي‏.‏ وقال الفراء‏:‏ لم تقل العرب‏:‏ أنت كي، وآثروا أنت كأنا، ولم يقولوا‏:‏ أنا كك وآثروا أنا كأنت، وجعلوا أنت وأنا للخفض، كما جعلوا هو للخفض، فقالوا‏:‏ أنا كهو‏.‏

والرفع أغلب على أنا وأنت وهو، ولم يصيروهن مخفوضات، والرفع أغلب عليهن إلا لأن الكنى تجري مجرى حروف المعاني، فتعرف بالدلالات فلذلك قالوا‏:‏ ضربتك أنت، ومررت بك أنت، فجعلوا أنت للنصب والخفض، وكذلك هو وأنا‏.‏

قال الكسائي‏:‏ قيل لبعض العرب‏:‏ من تعدون الصعلوك فيكم‏؟‏ فقال‏:‏ هو الغداة كأنا‏.‏ ولما صلحت الكاف للرفع والنصب والخفض في قيامك، وضربتك وبك، لم يستنكر كون أنت منصوباً مخفوضاً، وكذلك أنا وهو‏.‏ انتهى كلام أبي حيان‏.‏

ويستفاد منه أن دخول الكاف على ضمير الرفع المنفصل جائز في السعة عند الكوفيين‏.‏ ونقل عنهم خلافه في الارتشاف قال‏:‏ وفي البسيط‏:‏ وقد ورد أيضاً في ضمير الرفع في قولهم‏:‏ أنت كأنا، وأنا كهو‏.‏ وأنكره الكوفيون‏.‏ انتهى‏.‏

وكيف ينكرونه وهم الذين نقلوه عن العرب سماعاً‏.‏ ولله در الشارح المحقق في قوله‏:‏ قد تدخل في السعة على المرفوع نحو أنا كأنت، لورود السماع به‏.‏ وفي جعله دخولها على الضمير المنصوب والمخفوض خاصاً بالشعر، لعدم ورودهما عن العرب‏.‏

وقد سوى أبو حيان في الارتشاف بين المرفوع والمنصوب، فقال‏:‏ وقد أدخلت العرب الكاف على ضمير الرفع المنفصل، وعلى ضمير النصب المنفصل، قالت‏:‏ ما أنا كأنت، وقال‏:‏

ولم يأسر كإياك آسر‏.‏

وهذا غير جيد، لأن الثاني، إنما ورد في الشعر‏.‏

وذهب ابن مالك في التسهيل إلى أن دخولها على الضمير الغائب المجرور قليل، وعلى المرفوع والمنصوب أقل‏.‏ ونازعه شراحه فيه، فقالوا‏:‏ إن لم يكونا أكثر من المخفوض، فينبغي أن يكونا مساويين له‏.‏

والبيت من أرجوزة لرؤبة بن العجاج‏.‏ وقبله‏:‏

تحسبه إذا استتب دائل *** كأنما ينحي هجاراً مائلا

وهما في صوف حمار وأتنه‏.‏ وقوله‏:‏ تحسبه بالخطاب، والهاء ضمير العير، وهو الحمار‏.‏

واستتب‏:‏ جد في عدوه حتى انقطع‏.‏ وأصل التباب الخسران والهلاك‏.‏ ودائلاً حال مؤكدة لعاملها، وهو من الدالان، بفتح الدال المهملة وفتح الهمزة، وهو العدو‏.‏

وجملة‏:‏ كأنما ينحي إلخ، مفعول ثان لحسب، وجواب إذا محذوف يدل عليه الفعل قبلها‏.‏ وينحي بالنون والحاء المهملة‏:‏ يعتمد‏.‏

في الصحاح‏:‏ أنحى في سيره، أي‏:‏ اعتمد على الجانب الأيسر‏.‏ هذا هو الأصل، ثم صار الانتحاء الاعتماد والميل في كل وجه‏.‏

والهجار، بكسر الهاء بعدها جيم‏:‏ حبل يشد به وظيف البعير‏.‏ يريد أنه يعدو في شق، فكأنه مشدود بهجار‏.‏

وقوله‏:‏ فلا ترى بعلاً‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، هو بالخطاب أيضاً‏.‏ وترى بمعنى تعلم، متعد إلى مفعولين أولهما بعلاً، وثانيهما ما بعد إلا‏.‏ والجار والمجرور وهو كه صفة لبعل، أي‏:‏ لا ترى بعلاً كهذا الحمار، ولا حلائل كهذه الأتن، إلا مانعاً لها عن أن يقربها غيره من الفحول، لأن الحمار يمنع أتنه من حمار آخر‏.‏

والبعل‏:‏ الزوج‏.‏ والحلائل‏:‏ جمع حليلة، وهي الزوجة‏.‏ والحاظل، بالحاء المهملة، والظاء المعجمة المشالة، قال الأعلم‏:‏ هو والعاضل سواء، وهو المانع‏.‏

وقال النحاس‏:‏ يقال‏:‏ حظل أنثاه، إذا منعها عن التزوج‏.‏ كذا في نسختي التي قرأتها على أبي إسحاق‏.‏ وسألت أبا الحسن، فقال‏:‏ الحظلان مشية فيها تثاقل‏.‏ وقوله‏:‏ كه ولا كهن، أي‏:‏ مثله، ولا مثلهن‏.‏

وأعاد الكاف مع المعطوف لما قال جمهور البصريين‏:‏ لا يعطف على الضمير المجرور إلا بإعادة الجار نحو‏:‏ مررت بك وبزيد‏.‏

ولم يشترط الكوفيون ويونس والأخفش ذلك، وأجازوا في الكلام‏:‏ مررت بك وزيد‏.‏ وعليه جاء البيت الآتي، وهو قوله‏:‏ كها وأقربا‏.‏

وهذا إذا كان الضمير المجرور بطريق الأصالة، وأما إن كان بطريق الاستعارة كأن يستعار ضمير الرفع موضع ضمير الجر، جاز عند الجميع العطف عليه بدون إعادة الجار‏.‏

قال أبو حيان في الارتشاف، والتذكرة‏:‏ قال الفراء‏:‏ ومن لم يقل مررت بي وزيد على اختيار قال مختاراً‏:‏ أنت كأنا وزيد، وأنا كأنت وزيد‏.‏ انتهى‏.‏

قال الأعلم‏:‏ الوقف على كه بالهاء، لأنه ضمير جر متصل بالكاف اتصاله بمثل، والوقف عليه هنا كالوقف عليه ثمة‏.‏ انتهى‏.‏

ويروى في بعض النسخ من كتب النحو‏:‏ كهو، ولا كهن، برسم ضمة الهاء المشبعة واواً‏.‏ وذلك غير جيد‏.‏ ومن هنا قال المرادي في شرح التسهيل‏:‏ ولا حجة في قوله‏:‏ كهن ولا كه لاحتمال أن يكون كهو، ويجعل هو وكهن ضمير رفع منفضل، بنيابة ضمير الرفع عن ضمير الجر‏.‏

وقد شرح العيني هذين البيتين، بما لا يظهر معه معناهما، بل يزيد الطالب خبط عشواء‏.‏ قال‏:‏ استتب‏:‏ استقام‏.‏ ودائلاً من الدألان، وهو مشي يقارب فيه الخطو، كأنه مثقل من الحمل‏.‏

والهجار‏:‏ حبل يشد في رسغ رجل البعير، ثم يشد إلى حقوه، إن كان عرياً، وإن كان مرحولاً يشد في الحقب‏.‏

تقول منه‏:‏ هجرت البعير أهجره هجراً‏.‏ وهجار القوس‏:‏ وترها‏.‏ وبعلاً‏:‏ زوجاً‏.‏ وحليلة الرجل‏:‏ امرأته‏.‏ والحاظل‏:‏ المانع من التزويج، كالعاضل بالضاد‏.‏

وجملة لا ترى‏:‏ منفية من الفعل والفاعل، وبعلاً مفعوله، ولا حلائلاً عطف عليه‏.‏ وقوله كه‏:‏ الكاف للتشبيه، ومحله النصب لأنه مفعول ثان لترى، ولا كهن عطف على كه، وحاظلاً استثناء من قوله بعلاً ولا حلائلاً‏.‏ هذا كلامه فتأمل واعجب‏.‏

وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السادس والثلاثون بعد الثمانمائة

وهو من شواهد س‏:‏

وأم أوعال كه واقربا

لما تقدم قبله‏.‏

وهو من أرجوزة للعجاج، مطلعها‏:‏

ما هاج دمعاً ساكباً مستسكب *** من أن رأيت صاحبيك أكأبا

أي‏:‏ دخلا في الكآبة، وهي الحزن‏.‏ ثم وصف فيها حمار الوحش وأتنه، أراد أن يرد الماء فرأى الصياد، فهرب بأتنه‏.‏

إلى أن قال‏:‏

نحى الذنابات شمالاً كثب *** وأم أوعال كه وأقربا

ذات اليمين غير ما أن ينكبا

نحاه تنحية‏:‏ أبعده عنه، وجعله في ناحية‏.‏ وفاعل نحى ضمير يعود إلى حمار وحش ذكره‏.‏ يعني أنه مضى في عدوه ناحية، فجعل الذنابات في جانب شماله، وأم أوعال في ناحية يمينه‏.‏ وروى خلى الذنابات، وشمالاً على الأول ظرف، وعلى الثاني ظرف أيضاً في وضع المفعول الثاني، لتضمين خلى معنى جعل‏.‏

والذنابات، قال الأندلسي في شرح المفصل‏:‏ هو جمع ذنابة بكسر الذال، وهي آخر الوادي، ينتهي إليه السيل‏.‏ وكذلك آخر النهر‏.‏ ووجدتها في موضع آخر‏:‏ الذبابات بالموحدتين، وهي الجبال الصغار‏.‏ انتهى‏.‏

وقال غيره‏:‏ الذنابات بالذال والنون‏:‏ اسم موضع‏.‏ ولم أره في المعجم لأبي عبيد البكري ولا في معجم البلدان لياقوت الحموي ولا في كتب اللغة المدونة‏.‏

وفسره شارح اللباب بالجبال الصغار، وقيده العيني بفتح الذال، وقال‏:‏ اسم موضع بعينه‏.‏ والكثب، بفتح الكاف والمثلثة‏:‏ القرب وأراد القريب، وهو صفة الشمال‏.‏

وأم أوعال، قال البكري‏:‏ على لفظ جمع وعل‏:‏ هضبة في ديار بني تميم، ويقال لها‏:‏ ذات أوعال‏.‏ وأنشد هذا الشعر‏.‏

وقال ياقوت‏:‏ هضبة معروفة قرب برقة أنقد، وهي أكمة بعينها‏.‏ قال ابن السكيت‏:‏ ويقال لكل هضبة فيها أوعال‏:‏ أم أوعال‏.‏ وأنشد هذا الشعر وغيره، وقال‏:‏ والوعل‏:‏ كبش الجبل‏.‏

والهضبة‏:‏ الجبل المنبسط على وجه الأرض‏.‏ والأكمة‏:‏ تل وقيل‏:‏ شرفة كالرابية، وهو ما اجتمع في مكان واحد وربما لم يغلظ‏.‏

وقوله‏:‏ كها الضمير للذنابات‏.‏ قال ابن السيرافي‏:‏ أم أوعال‏:‏ مبتدأ، وكها هو الخبر، وأقرب معطوف على مجرور الكاف، من غير إعادة الجار‏.‏

يعني أنه مضى في عدوه ناحية من الذنابات، فكأنه نحاها عن طريقه، وهي عن شماله في الموضع الذي عدا فيه بالقرب من الموضع، وليست ببعيدة‏.‏ وأم أوعال من الموضع الذي عدا فيه كالذنابات منه، واقرب إليه منها‏.‏ انتهى‏.‏

وقال ابن يعيش وصدر الأفاضل‏:‏ المحفوظ أن أم أوعال بالنصب، فيكون معطوفاً على الذنابات‏.‏

وقال صدر الأفاضل‏:‏ والمعنى نحى الذنابات عن طريقه جانب شمال قريب منه، بأن مضى ناحية منها، ونحى أم أوعال في جانب يمينه، مثل الذنابات في القرب منه، وأقرب منها إليه‏.‏

وقوله‏:‏ غير ما أن ينكبا بنصب غير على الاستثناء، وما زائدة، وأن ناصبة، وفاعل ينكب ضمير الجار‏.‏

قال الأصمعي في كتاب الإبل‏:‏ نكب ينكب نكباً ونكوباً، إذا انحرف عن الطريق‏.‏ وأنشد هذا البيت‏.‏ وهو من باب نصر‏.‏

قال ابن السيرافي‏:‏ يقول‏:‏ هما عن يمين طريقه وشماله، ومقدار ما بين كل واحد من الموضعين، وبين طريقه متقارب، إلا أن يجوز في عدوه، فتصير الذنابات، إن مال إليها أقرب من أم أوعال، وإن مال في العدو إلى أم أوعال، صارت أقرب إليه من الذنابات‏.‏

وقال العيني‏:‏ أم أوعال‏:‏ مبتدأ، وخبره‏:‏ كها، وأقرب‏:‏ معطوف على الضمير المجرور‏.‏

ويجوز نصب أم أوعال بالعطف على الذنابات، على معنى جعل أم أوعال كالذنابات وأقرب، فيكون أقرب حينئذ معطوفاً على محل الجار والمجرور‏.‏ هذا كلامه‏.‏

يريد أن موضع الجار والمجرور النصب على أنه مفعول ثان لجعل، وأقرب معطوف على المحل‏.‏

وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب‏.‏

وأنشد بعده‏:‏

الشاهد السابع والثلاثون بعد الثمانمائة

فإن الحمر من شر المطاي *** كما الحبطات شر بني تميم

على أن الكاف المكفوفة بما‏.‏ قد تكون لتشبيه مضمون جملة بمضمون جملة أخرى‏.‏ ومضمون الأولى كون الحمر من شر المطايا، ومضمون الثانية كون الحبطات سر بني تميم‏.‏ فشبه ذاك الكون بهذا الكون، وهما مضمونا الجملتين، ووجه الشبه الحصول في الوجود‏.‏ وكذا تقول في الآية قبله‏.‏ وكذا الحال إن كان بعد كما أن‏.‏

وقد فرق بينهما ابن الخباز في النهاية، قال‏:‏ قد كفوا الكاف بما، كما كفوا رب، فتليها الجملة الاسمية والفعلية‏.‏ تقول‏:‏ زيد قاعد كما عمرو قائم، شبهت جملة بجملة بكونهما حاصلين في الوجود‏.‏

وتقول‏:‏ زيد قاعد كما أن عمراً قائم، والمعنى‏:‏ قعود زيد لا محالة وقيام عمرو لا محالة‏.‏ فالأولى فيها تشبيه جملة بجملة، وهذه توجب حصول الأمرين في الوجود‏.‏ فهذا فرق ما بينهما‏.‏ وتقول‏:‏ زرني كما أزورك، فتحتمل ما أن تكون مصدرية، أي‏:‏ زرني كزيارتي إياك، وتكون بمعنى لعل، أي‏:‏ لعلي أزورك‏.‏ انتهى‏.‏

وزعم أبو علي أن ما في الآية والبيت موصولة، وصدر الصلة محذوف، قال‏:‏ وأما قوله‏:‏ قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فالتقدير‏:‏ اجعل لنا إلهاً مثل التي هي لهم آلهة، وحذف المبتدأ من الصلة، كما حذف في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏تماماً على الذي أحسن بالرفع، التقدير‏:‏ الذي هو أحسن‏.‏ ومثله قراءة رؤبة‏:‏ مثلاً ما بعوضة برفع بعوضة‏.‏ فالتقدير أن يضرب الذي هو بعوضة مثلاً‏.‏ وعلى هذا حمل الأخفش قول الشاعر‏:‏

وجدنا الحمر من شر المطايا البيت

قال‏:‏ معناه كالذين هم الحبطات‏.‏ قال‏:‏ وإن شئت جعلت ما زائدة وجررت الحبطات بالكاف‏.‏ انتهى‏.‏

وهذا غير جيد، فإنه تخريج على القليل النادر مع إمكانه على التخريج الكثير الشائع‏.‏ وكأنه مبني على أن الكاف، لا تكف بما، كما زعمه صاحب المستوفي‏.‏

ورد عليه بقوله‏:‏

أعلم أنني وأبا حميد *** كما النشوان والرجل الحليم

قال ابن هشام في المغني‏:‏ وإنما يصح الاستدلال بهذا إذا لم يثبت أن ما المصدرية توصل بالجمل الاسمية‏.‏ انتهى‏.‏

فما اللاحقة للكاف عند البصريين ثلاثة أقسام على خلاف فيها‏:‏ مصدرية، وموصولة، وكافة‏.‏ وهذه قسمان‏:‏ أحدهما‏:‏ كافة ومهيئة فقط‏.‏

وثانيهما‏:‏ تغيير معنى الكلمة معها‏.‏ ولها معنيان حينئذ، إما معنى‏:‏ لعل، وإما معنى‏:‏ القران في الوجود، وعبر عنه السيرافي وغيره بالمبادرة، ومثل بسلم كما لا تدخل، وصل كما يدخل الوقت‏.‏

ومما قيل إن ما فيه موصولة قولهم‏:‏ كن كما أنت‏.‏ وللنحويين فيه خمسة أقوال‏:‏ قولان على الموصولية، وقولان على أنها كافة، وقول بزيادتها‏.‏

الأول‏:‏ أن الكاف بمعنى علي، وما موصولة، وأنت مبتدأ حذف خبره، أي‏:‏ كن على ما أنت عليه‏.‏

الثاني‏:‏ أنها موصولة، وأنت‏:‏ خبر محذوف مبتدؤه، أي‏:‏ كالذي هو أنت‏.‏ وقد قيل به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة كما تقدم‏.‏

الثالث‏:‏ أن ما كافة، وأنت مبتدأ حذف خبره، أي‏:‏ عليه، وكائن‏.‏ وقد قيل في كما لهم آلهة أيضاً‏.‏

الرابع‏:‏ أن ما كافة، وأنت فاعل، والأصل كما كنت، ثم حذفت كان فانفصل الضمير‏.‏

الخامس‏:‏ أن ما زائدة والكاف جارة، كما في قوله‏:‏

كما الناس مجروم عليه وجارم

وأنت ضمير رفع أنيب عن المجرور، والمعنى‏:‏ كن فيما يستقبل مماثلاً لنفسك فيما مضى‏.‏

حكى هذه الخمسة ابن هشام في المغني، وقال‏:‏ تقع كما بعد الجمل كثيراً صفة في المعنى، فتكون نعتاً لمصدر وحالاً، ويحتملهما قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده ‏.‏

فإن قدرته نعتاً لمصدر، فهو إما معمول لنعيده، أي‏:‏ نعيد أول خلف إعادة مثل ما بدأناه، ولنطوي، أي‏:‏ نفعل هذا الفعل العظيم كفعلنا هذا الفعل‏.‏

وإن قدرته حالاً فذو الحال مفعول نعيده، أي‏:‏ نعيده مماثلاُ، للذي بدأناه‏.‏ وتقع كلمة كذلك أيضاً كذلك‏.‏ فإن قلت‏:‏ فكيف اجتمعت مع مثل في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وقال الذين لا يعلمون لولا يكلمنا الله وتأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ، ومثل في المعنى نعت لمصدر قال المحذوف، أي‏:‏ كما أن كذلك نعت له، ولا يتعدى عامل واحد لمتعلقين بمعنى واحد، لا تقول‏:‏ ضربت زيداً عمراً‏.‏

ولا يكون مثل توكيداً لكذلك لأنه أبين منه، كما لا يكون زيد من قولك‏:‏ هذا زيد يفعل كذا توكيداً لهذا كذلك ولا خبراً لمحذوف بتقدير‏:‏ الأمر كذلك، لما يؤدي إليه من عدم ارتباط ما بعده بما قبله‏.‏

قلت‏:‏ مثل بدل من كذلك وبيان، ونصب بيعلمون، أي‏:‏ لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى‏.‏ فمثل بمنزلتها في‏:‏ مثلك لا يفعل كذا، ونصب بقال‏.‏ والكاف‏:‏ مبتدأ، والعائد محذوف، أي‏:‏ قاله‏.‏

ورد ابن الشجري ذلك على مكي، بأن قال‏:‏ قد استوفى معموله، وهو مثل‏.‏ وليس بشيء؛ لأن مثل حينئذ مفعول مطلق، ومفعول به ليعلمون، والضمير المقدر مفعول به لقال‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

والبيت من أبيات ثلاثة لزياد الأعجم، وهي‏:‏

وأعلم أنني وأبا حميد *** كما النشوان والرجل الحليم

أريد حباءه ويريد قتلي *** وأعلم أنه الرجل اللئيم

فإن الحمر من شر المطاي *** كما الحبطات شر بني تميم

كذا أوردها العيني، ولم ينبه على أن البيت الأخير فيه إقواء‏.‏

وقوله‏:‏ وأعلم أنني فعل مضارع، وروى بدله‏:‏ لعمرك إنني‏.‏ وعلى الأول همزة أنني مفتوحة، وعلى الثاني مكسورة‏.‏ وقوله‏:‏ كما النشوان‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، أورده المرادي في شرح الألفية، وابن هشام في المغني على أن ما كفت الكاف عن عمل الجر‏.‏ والنشوان‏:‏ السكران‏.‏ والنشوة‏:‏ السكر‏.‏ والحليم‏:‏ الذي عنده تأن وتحمل لما يثقل على النفس‏.‏

يقول‏:‏ أنا وأبو حميد كالسكران والحليم، أتحمل منه وهو يعبث بي، كالسكران يسفه على الحليم وهو متحمل‏.‏ وهذا تشبيه تمثيلي، شبه حالته معه بحالة الحليم مع السكران‏.‏ والمخبر عنه اثنان وما بعد كما خبرهما، إلا أنه أخبر عن الثاني بالأول، وعن الأول بالثاني لظهور المعنى، وعدم اللبس‏.‏

وتكلف الدماميني فجعل النشوان‏:‏ مبتدأ، والرجل‏:‏ معطوفاً عليه، وخبرهما محذوفاً، أي‏:‏ كائنان‏.‏ وهذا التقدير مستغنىً عنه، ولا ضرورة تدعو إليه‏.‏

وتبعه ابن الملا ولم يكتف به، بل أطال لسانه على الجلال السيوطي، وقال‏:‏ النشوان‏:‏ مبتدأ، لا خبر، كما وهم الجلال‏:‏

وكم من عائب قولاً صحيح *** وآفته من الفهم السقيم

وروي‏:‏ كما النشوان‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، يجرهما على جعل ما زائدة لا كافة، فيكون الإقواء في البيت الثاني ويروى‏:‏ لكالنشوان‏.‏ واللام للتوكيد في خبر إن، وعلى هذا لا شاهد في البيت‏.‏

وقوله‏:‏ أريد حباءه ويريد قتلي أخذ هذا المصراع من قول عمرو بن معديكرب الصحابي، في ابن أخته قيس بن المكشوح المرادي‏:‏

أريد حباءه ويريد قتلي *** عذيرك من خليلك من مراد

والحباء‏:‏ بكسر المهملة بعدها موحدة‏:‏ العطية‏.‏ حدث أمر بينهما أوجب التقاطع‏.‏ يقول‏:‏ أريد نفعه وحباءه مع إرادته قتلي، وتمنيه موتي، فمن يعذرني منه‏.‏

ويروى‏:‏ أريد حياته بلفظ ضد الممات‏.‏ وكان علي رضي الله عنه ينشد هذا البيت كلما يرى عبد الرحمن بنم ملجم، قاتله الله‏.‏

والبيت من شواهد سيبويه‏.‏ قال الأعلم‏:‏ الشاهد فيه نصب عذيرك، ووضعه موضع الفعل بدلاً منه‏.‏ والمعنى‏:‏ هات عذرك، وقرب عذرك‏.‏ والتقدير‏:‏ اعذرني منه عذرا‏.‏

واختلف في العذير، فمنهم من جعله مصدراً بمعنى العذر، وهو مذهب سيبويه‏.‏ ومنهم من جعله بمعنى عاذر، كعليم وعالم‏.‏ والمعنى عنده‏:‏ هات عذرك‏.‏ وامتنع أن يجعله بمعنى العذر، لأن فعيلاً لا يأتي مصدراً إلا في الأصوات نحو‏:‏ الصهيل‏.‏

ورد بأن المصدر يطرد وضعه موضع الفعل بدلاً منه، ولا يطرد ذلك في اسم الفاعل، وقد جاء فعيل في غير الصوت كقولهم‏:‏ وجب القلب وجيباً، إذا اضطرب‏.‏ انتهى‏.‏

وروى الدماميني المصراع الأول كذا‏:‏

أريد هجاءه وأخاف ربي *** واعلم أنه عبد لئيم

وقال‏:‏ ادعى الحلم، لكنه أبان عن عدم حلمه بهذا البيت‏.‏ وأي حلم، وأي كف عن الهجاء مع التسجيل عليه بهذا الوصف الذميم‏.‏ وغرضه أن ما ذكره لا يعد هجواً، لاتصافه بما يكون هذا المذكور بالنسبة للمسكوت عنه من أوصافه كالمدح له‏.‏ وفي الحقيقة هذا غاية الذم والهجاء‏.‏

وقوله‏:‏ فإن الحمر‏.‏‏.‏‏.‏إلخ، هو جمع حمار‏.‏ والمطايا‏:‏ جمع مطية‏.‏ قال صاحب المصباح‏:‏ والمطا على وزن العصا‏:‏ الظهر؛ ومنه قيل للبعير‏:‏ مطية فعيلة بمعنى مفعولة، لأنه يركب مطاه ذكراً كان وأنثى، ويجمع على مطي ومطايا، فلا يصح جعل الحمير من شر المطايا، لأن الحمير غير الإبل‏.‏ والجيد قول صاحب القاموس‏:‏ المطية‏:‏ الدابة التي تمطو في السير، أي‏:‏ تجد وتسرع‏.‏ وفيه رواية أخرى، وهي‏:‏

فإن النيب من شر المطايا

والنيب‏:‏ جمع ناب، وهي الناقة المسنة‏.‏ وأغرب العيني هنا، فقال‏:‏ الحمر جمع حمار، هكذا وجدته مضبوطاً في نسخة صحيحة لأبي علي، أعني التذكرة‏.‏

ووجدت في موضع آخر‏:‏ فإن الخمر بفتح الخاء المعجمة، وهي التي تشرب، وهذا أقرب وإن كان ذاك أصوب‏.‏ وقد شبه الخمر بالمطية التي لا خير فيها، ووجه الشبه حصول الشر من كل منهما‏.‏ هذا كلامه‏.‏

وهذه غفلة، فإنه لا تشبيه هنا، وإنما أخبر عن الحمر بكونها من شر المطايا‏.‏ ورواية الخمر بالمعجمة تحريف على تصحيف‏.‏

والحبطات، بفتح المهملة وكسر الموحدة، وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم‏.‏ قال صاحب الصحاح‏:‏ الحبط، بالتحريك‏:‏ أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها ولا يخرج عنها ما فيها‏.‏

وقال ابن السكيت‏:‏ وهو أن ينتفخ بطنها عن أكل الذرق، وهو الحندقوق‏.‏ ويقال‏:‏ حبطت الشاة بالكسر، وفي الحديث‏:‏ وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبط ويلم ‏.‏

ومنه سمي الحارث بن عمرو بن تميم‏:‏ الحبط، بفتح فكسر، وقيل له‏:‏ الحبط، لأنه كان في سفر فأصابه مثل ذلك‏.‏ وولده هؤلاء الذين يسمون الحبطات من بني تميم، والنسبة إليهم حبطي‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل‏:‏ الحبطي، بفتح الباء كراهة الكسرات‏.‏

قال المبرد في الكامل‏:‏ يروى أن الفرزدق بلغه أن رجلاً من الحبطات بن عمرو بن تميم خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم، فقال الفرزدق‏:‏

بنو دارم أكفاؤهم آل مسمع *** وتنكح في أكفائها الحبطات

آل مسمع‏:‏ بيت بكر بن واائل في الإسلام، وهم من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل‏.‏

والحبطات هم بنو الحارث بن عمرو بن تميم‏:‏ فقال رجل من الحبطات يجيبه‏:‏

أما كان عباد كفيئاً لدارم *** بلى ولأبيات بها الحجرات

يعني بني هاشم، من قول الله عز وجل‏:‏ ‏{‏إن الذين ينادونك من وراء الحجرات ‏.‏ انتهى‏.‏

قال ابن السيد‏:‏ عباد هذا هو ابن حصين صاحب البغلة‏.‏ والكفيء‏:‏ فعيل بمعنى الكفء‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ غنما سمي الحارث حبطاً، لأنه كان في سفر فأكل أكلاً، فانتفخ بطنه فمات، فسمي حبطاً وعيروا بذلك‏.‏ فانحطاط قدره وقدر أولاده إنما هو لهذا، لا لما زعم ابن نباتة في شرح الرسالة الزيدونية من أنه إنما نقص قدر الحبطات عن بني دارم لقول الشاعر‏:‏

وجدنا النيب من شر المطايا البيت

فلزمهم هذا القول‏.‏ انتهى‏.‏

ولا يخفى أن هذا البيت لزياد الأعجم، وهو من معاصري الفرزدق، وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني بعد الثمانمائة‏.‏ وتسميتهم بالحبطات قديم جداً قبل أن يخلق أجداد زياد، فكيف لقبوا بقوله‏.‏ والله أعلم‏.‏

وأنشد بعده‏:‏